حلم

المقاله تحت باب  قصة قصيرة
في 
08/01/2017 06:00 AM
GMT



    لا يستطيع المنفي أن يقول إنه قد عمل شيئاً خلال سنوات نفيه. لقد توهم كثيراً حينما كان يردد بينه وبين نفسه شعراً قرأه في يوم ما : ( لا تدق مسماراً في الحائط، ودع السترة فوق الكرسي ، فغداً عائد ...).
مرّت سنوات كثيرة دون أن يفعل شيئا، بل واصل انتظاراً عاطلاً ، فلم يتعلم لغة أخرى ولا حرفة أخرى.
نظر إلى ما حوله بغربة، إلى المنضدة في الزاوية ، وإلى الأريكة التي أمامه. كل شيء غريب عنه، وبدلاً من أن يعتاد محيطه الجديد ، راح شعوره بالغربة يزداد يوماً بعد الآخر.
عائداً من عمله المضني حيث يتسلق ثلاثة طوابق إلى شقته، شاعراً بغربة شديدة وخوف مبهم. غريب على ملمس حاجز السلم، على الدرجات الاسمنتية، على الوجوه التي تصادفه، كأنه رجل دائم السفر ، بلا مكان خاص به، ولا يمتلك غير حلم!
مرة قال لنفسه: سوف أبني غرفة، طولها ستة أمتار، لتكن عشرة ،  وأجعل منها غرفة أحلامي ، واسعة بما فيه الكفاية.
ما أن تفتح بابها، عليك التوجه يميناً أو شمالاً. ليكن الشمال. قال ذلك لنفسه ومضى مستمتعاً بفكرته: سيكون الحائط برفوف خشبية، من الأرض حتى السقف ، مليئاً بالكتب، كل الكتب التي تحب وتريد قراءتها، الأساطير، والتراث، القرآن ومقدمة ابن خلدون، تولستوي بريخت همنغواي ماركس انجلز العهد القديم والجديد، كل الذين تحبهم.
ومضى ينصت للمعماري يُهندس غرفة أحلامه.. أن تضع أمام هذه الرفوف العامرة بالكتب منضدة كتابة طويلة وعريضة وخشبها قديم. وأضاف مخاطباً نفسه : في بيتك هناك  مثل هذه المنضدة، وما ينقصه هو كرسي مريح يلائم الفقرات ، والحصول على مثل هذه الشيء ليس صعبا.
على منضدته العتيقة تقبع آلة الكاتبة. ولا حاجة للخوف من اقتناء آلة للكتابة في وضع سيكون طبيعياً في البلاد ولا شك. هناك ، كذلك، دزينة من الأوراق، وأقلام جيدة. وأضاف مخاطباً نفسه: لأشد ما أحب اقتناء الأقلام. في دواليب المنضدة هناك دائماً أوراق وأقلام للاحتياط ، ورسائل وأشياء شتى ، كذلك النظارة الطبية.
ونقل نظراته في أرجاء غرفة شقته الجرداء في المنفى ولاحظ
نظارته الطبية مطروحة فوق كتاب على كرسي وعاد متطلعاً إلى سقف حجرته مستلقياً على سريره.
كان وجهه يعكس اختلاجات نفسه متخيّلاً أن غرفة حلمه هي معبد ومعمل في آن ، مفكراً بأن منضدة أخرى طويلة للعمل ينبغي أن تمتد على طول الجدار، ويستطيع رفع جزء منها ليصبح لوحة للرسم الهندسي مثبتة عليها مسطرتان متعامدتان أو مسطرة أفقية واحدة تسحب بالبكرات كالتي كانت لديه عندما كان طالباً. يحتوي الجزء الآخر من المنضدة على أدراج  تستقر فيها أوراق كبيرة مخصصة للرسم ، جميع أنواع الورق، كذلك علب الألوان الزيتية وملحقاتها.
ويتذكر أنه ترك في الوطن حاجزاً خشبياً، أودعه بيت أهله. قال لنفسه: سأُحضره بالتأكيد، فله مكانه المخصص، سيكون هناك، حاجباً لسريري الخشبي الذي سيقبع في الزاوية مع الدولاب الصغير وعليه المصباح الليلي. بالتأكيد سأجد إلى جانب المصباح كتاباً جيداً للقراءة، وفي درج الدولاب أدويتي الخاصة ومهدئات الآلام .
ستكون هناك نافذة واسعة لها خُصاص خشبية من الخارج، أما من الداخل فتغطيها ستائر جميلة اللون .
وفكر أنه يحتاج إلى كرسي هزاز أنيق وصالح لفقرات الظهر.
تقول زوجته أن الكراسي الهزازة سيئة لفقرات الظهر، ويظن أن ذلك مجرد هراء. قال لنفسه ليكن ذلك فماذا يهم، طالما يقبع في زاوية من زوايا هذه الغرفة الفارهة كرسي هزاز! فضلا عن أريكة واحدة أو اثنتان مع طاولة واطئة .
وسأل نفسه في برهة من الشعور بالانتشاء، ماذا ينقص حجرتك القادمة؟ فكّر بلوحات فنية. وخاطب نفسه ساخطاً: كان من الواجب التفكير بذلك منذ البداية. حسناً، ستكون هناك نسخة لبرويكل بكامل عظمته، بفلاحاته الثلاث، وتفاحات سيزان وفتاه ذو الصدرية الحمراء!
وسأل نفسه: ماذا ستحتاج إليه بعد كل هذا؟ صمت برهة وعاد يخاطب نفسه : لن أدع زوجتي والأطفال البقاء في غرفتي أكثر من ساعة واحدة كل يوم. سأكتب وأرسم. آن لي أخيراً أن أهتم بنفسي ، وأمارس ما حُرمت منه طيلة حياتي. أما الحصول على وسائل العيش فلن نحتاج إلى الشيء الكثير.
وماذا بعد؟ تذكرت .. ستكون هناك في غرفتي كومة من الأحجار المنتقاة تقبع في الزاوية، وكل من يقول إني ذو
نزعة بورجوازية صغيرة ، يحلم بغرفة أو بيت، سألقمــه بحجر!

1989